دماغ الإنسان , كيف يفكر أسس التفكير السببي والمنطقي لدينا هناك فرق أساسي وهام بين التفكير بواسطة اللغة والتفكير بدون لغة , وهذا أهم ما يميز اختلاف تفكيرنا عن باقي تفكير الكائنات الحية , فنحن نفكر بشكل إرادي واعي سببي منطقي بواسطة اللغة . فنحن نفكر بواسطة بنيات لغوية تمثل أشياء وحوادث الوجود . فالعقل لدينا نحن البشر قام بتمثيل أشياء وعناصر الوجود وصيرورتها , بهويّات و مفاهيم لغوية ثابتة , محددة , معينة , يستطيع التعامل بها . فهو بذلك يحول اختلافات وصيرورة الأشياء , إلى اختلافات محددة معينة بين وحدات أو هويات معرّفة لديه , عندما يشكل البنيات اللغوية الفكرية الممثلة للوجود وحوادثه . البنيات الفكرية اللغوية ( أو المفاهيم ) فعمل الدماغ الأساسي لدينا هو تحديد أجزاء وأحداث الوجود أوالأشياء وظواهر أوالوقائع, وتمثيلها بنيات لغوية فكرية ( ثابتة , محددة , معينة ), وأهم وظيفة لدماغ البشري هي كشف البنيات المضمرة في الوجود , وذلك ببناء نماذج فكرية لغوية تمثلها. وهذا ما يفعله دماغنا لبناء وتشكيل الأفكار أو المفاهيم , فهو يسعى لتعيين الثوابت في هذا الوجود , ويمثلها ببنيات فكرية لغوية , كي ينطلق منها ويبني عليها أفكاره . فالوجود لا يمكن التعامل معه إلا بعد تعيينه , وبالتالي فهمه ومعرفته , وهذا لا يتم إلا بعد تثبيته , وتحديده , وتعيينه , ببنيات لغوية فكرية . فلابد من تعيين صفات وتأثيرات الشيء أو الظاهرة إذا أردنا تعيينهم وتمثيلهم ببنيات فكرية لغوية . والملاحظ أن صفات وتأثيرات أي شيء لا يمكن أن تعين بشكل مطلق بل بشكل نسبي , وصفات وتأثيرات أي شيء تابع للبنية أو البنيات التي يؤثر فيها . وتثبيت المفهوم هو: منعه من التغير والحركة والصيرورة , وهذا هو أساس مبدأ الهوية الذي هو : أي " – أ- تبقي هي– أ- " أما تحديد المفهوم فهو : فصله عن غيره من المفاهيم وتحديده . وأما تعيين المفهوم فهو : تعيين صفاته وتأثيراته , فعدم تعيين خصائصه و تأثيراته هو تعريفه بشكل دقيق . التكميم الفكري فالتثبيت , والتحديد , والتعيين , هو بمثابة تكميم فكري للموجودات وصيرورتها , فهو تمثيل الموجودات وصيرورتها ببنيات فكرية لغوية : * اسمية للأشياء والهويات * فعلية أو تحريكية للتغيرات للصيرورة . أي لها كمية وخصائص , وتغيرات أو صيرورة , معرّفة . فالعقل عندما يشكل البنيات الفكرية اللغوية , يكون ذلك بناءً على تكميم الكيف . إن ( الكيف ) بالنسبة لنا مرتبط بأحاسيسنا بشكل أساسي , فهو تابع لأنواع أحاسيسنا وخصائصها , وهو مرتبط بالممتع والمفيد والجميل وبكافة أنواع الأحاسيس . وتشكيل العقل ( للكم ) أتى لاحقاً نتيجة معالجة واردات الحواس بشكل متطور وبواسطة البنيات الفكرية اللغوية . مثال على تكميم العقل للكثرة : هناك مثل يقول" لا يمكن حمل بطيختان بيد واحدة " هذا صحيح في الوضع العادي . ولكن يمكن حمل بطيختان أو أكثر بيد واحدة إذا ربطت معاً أو وضعت في وعاء لتصبح مجموعة واحدة . وهذا ما يفعله العقل عند التعامل مع الكثرة , فهو لا يستطيع التعامل إلا بالوحدات المحددة , لذلك هو يستعمل آلية تشكيل المجموعة بجمع عدة وحدات متماثلة أو متشابه في مجموعة أي ( بنية واحدة ) , فبذلك يستطيع التعامل معها وتحريكها و مفاعلتها مع باقي البنيات . وطريقة تشكيل المجموعات هي نفسها التعميم الذي يتضمن ضم أو جمع عدد من البنيات الفكرية في مجموعة واحدة , لأنها تتضمن بعض الصفات أو الخصائص المتماثلة أو المتشابهة . فالمجموعة أو الفئة هي طريقة تكميم استعملها عقلنا في تعامله مع الكثرة , وأعادها للوحدة الواحدة , ليستطيع التعامل معها . فهو لا يستطيع التعامل مع الكثرة , إذا كانت غير معينة برقم أو كمية . فالتعيين برقم أو بكمية أو بخاصية يزيل عدم التعيين . إذاً استعمل عقلنا الفئات أو المجموعات أو الأسماء العامة وكذلك الأعداد والصفات , لكي يتعامل مع الكثرة . وقد كمم العقل المقدار بالعدد . وكمم المكان بالمسافات والاتجاهات والسطوح و الحجوم . وكمم الزمان بالوحدات الزمنية والاتجاه قبل وبعد أي الماضي , والحاضر , والمستقبل . وكمم قوة المؤثر بمقدار شدتها أو درجتها . وكمم الأحاسيس بتحديد نوعها , أو تصنيفها . وللتكميم الفكري درجات أو مستويات , أي يمكن أن يكون ضعيفاً وغير دقيق , ويمكن أن يكون دقيقاً , ويمكن أن يكون تاماً أو مطلقاً كما في العمليات الرياضية . العقل لدينا يشكل نوعين من المفاهيم أو البنيات الفكرية اللغوية أولاً : مفاهيم تدل على الأشياء وتحدد هويتها وخصائصها مثل: الأسماء الخاصة إن كانت خاصة مثل: زيد . عمر . دمشق . أو الأسماء العامة مثل: شجرة . قطة. سيارة . أو أسماء عامة مركبة مثل: الأسرة. الدولة. الاقتصاد . العلم . الفكر . ويكممها , بالكميات , المقدار أوالعدد , وبالزمان قبل , بعد . وبالصفات والخصائص الكثيرة الأخرى . . . ثانياً: مفاهيم تدل على حركة أو تغيرات أو صيرورة الأشياء أو الهويات أي مفاهيم فعلية أو تحريكية . فقد قام عقلنا بتثبيد وتحديد وتعيين التغيرات و الصيرورات وشكل البنيات الفكرية التحريكية مثل : كبر , صغر , صار , نما , أكل , ضرب , عمل , فرح . . . . والبنيات الفكرية التحريكية العامة المعقدة , مثل : التعاون , الصداقة , الحرية , العدالة , الديمقراطية. . . . وباستعمال قواعد النحو ,العطف والربط والجمع والاستثناء... واستخدم الاشراط أو الربط المنطقي الذي يعتمد عليه مبدأ أو آلية السببية ( إذا كان " كذا " يكون " كذا " ) . وكذلك استعمل التصنيف والتعميم والقياس والمقارنة والتقييم والحكم , والاختبار والتصحيح , لكي تتطابق أو تقترب النتائج بين النموذج والأصل . بذلك استطاع الدماغ أو العقل تشكيل نموذج مختصر وبسيط للوجود وصيرورته , بواسطة تلك البنيات الفكرية التي شكلها , تمكنه من تحريك أو مفاعلة النموذج الذي شكله للوجود , إلى الأمام إلى المستقبل ( وهذا هو التركيب ) , أو إلى الخلف إلى الماضي ( وهذا هو التحليل ) . وذلك بسرعة أكبر من سرعة تغيرات الواقع الفعلية . فالعقل يقوم بالتحريك الفكري ( أي المعالجات الفكرية أو التفكير ) لهذه البنيات الفكرية التي شكلها , وذلك خطوة , خطوة . أي يقوم بالتحريك الفكري للهويات الشيئية أو الإسمية , بواسطة الهويات التحريكية . البنيات الفكرية الرياضية لقد شكل عقلنا البنيات الفكرية الرياضية , والتي هي بنيات فكرية تامة أو مطلقة التكميم . فالبنيات الفكرية الرياضية الشيئية ( الهويات الرياضية الاسمية ) مكممة بشكل مطلق . فالأعداد وهي التي نستطيع بواسطتها التعامل فكرياً مع الكثرة هي كميات مثبتة ومحددة ومعينة بشكل كامل , فالعدد ( 2 ) يعني شيئين أو وحدتين أو زمنين أو حادثتين... متماثلتين ومتطابقتين بشكل تام , ( مع أن هذا غير موجود في الواقع , فهناك دوما فروق بين أي شيئين أو أي وحدتين , يتم إهماله ) . وهذا مكن من القياس والمقارنة بشكل تام . وكذلك كممت البنيات الرياضية الهندسية النقطة والمستقيم والزاوية والمثلث... بشكل تام , وكذلك باقي البنيات الرياضية . و كممت الرياضيات أيضاً التغيرات والصيرورة بالبنيات الرياضية التحريكية , مثل عمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة , والجزر والتربيع , والمساواة وعدم المساواة , والمعادلة , والتفاضل والتكامل والتناهي ......الخ . وكافة البنيات والعمليات الرياضية مكممة بشكل تام , والبنيات الرياضية تتوسع وتنمو وتتطور باستمرار فقد نشأت فروع ومجالات كثيرة . وإذا قارنا المنطق بالرياضيات . نجد أن المنطق يكمم الأفكار بشكل تام مثل الرياضيات , ولكنه لم يكمم إلا عدد قليل جداً من البنيات الفكرية الشيئية أو التحريكية . لذلك " الرياضيات . الرياضيات . الرياضيات , المنطق منذ زمن لم يعد كافياً " . كيف تشكلت البنيات الفكرية اللغوية في أدمغتنا إن البنيات الفكرية تتشكل في أدمغة الكائنات الحية في أول الأمر , من واردات الحواس . فهي تتكوٌن نتيجة ترابط كمية معينة من واردات الحواس مع بعضها نتيجة تزامن حدوثها معاً بالإضافة إلى تكرار هذا الحدوث , ونتيجة آليات وعوامل أخرى , فتتشكل بذلك البنيات الفكرية الأولية أو الأساسية . وهذا يتم بعدما أن تتوضع في الذاكرة وتكون على شكل بنيوي أي حدوث نمو لمشابك ومحاور الخلايا العصبية , التي تكرر مرور التيارات العصبية فيها . وعندها يصبح بالإمكان إعادة إنشائها نتيجة وصول جزء منها , وليس كلها. فالبنيات الفكرية تتشكل نتيجة تثبيت وتحديد مجموعة معينة من واردات الحواس التي دخلت معاً إلى الدماغ . والتثبيت ينتج عن تنامي محاور ومشابك الخلايا العصبية . و واردات الحواس تكون ذات كمية وشدة وخصائص ثابتة محددة أثناء إرسالها إلى الدماغ , فهي بمثابة صورة ثابتة محددة التقطت للواقع أثناء صيرورته . هذا النوع من البنيات الفكرية الخام موجود لدى غالبية الكائنات الحية , فأصول الدماغ واحدة , فالفرق بيننا وبينهم هو في زيادة التخصص والتعقيد , ونشوء اللغة المحكية ثم المكتوبة هو الذي أحدث تلك الفروق الكبيرة بيننا وبينهم . فعندما يولد الأطفال يبدؤون في أول الأمر بتشكيل بنياتهم الفكرية الخام , وبعد فترة يبدؤون بتشكيل بنياتهم الفكرية اللغوية . وكل شيء ليس له واردات حسية يصعب على العقل تشكيل بنية فكرية له , والأفكار التي تنتج عن معالجة البنيات الفكرية اللغوية , هي فقط التي توجد بنيات فكرية ليس ضرورياً أن يكون لها أصل واقعي . ولدى الإنسان الذي يعيش حياة اجتماعية , تطورت هذه البنيات الفكرية العصبية الخام نتيجة التواصل بين الأفراد , فترابطت سلسلة بنيات فكرية الخام لتشكل بنيات فكرية لغوية , عندما مثلت بعض البنيات الفكرية الخام بإشارات فيزيائية ( أصوات وتعبيرات وحركات . . ) تدل عليها , وهذا أدى لنشوء البنيات الفكرية اللغوية وتطورها لتصبح كما هي عليه لدينا الآن. فاللغة لدينا تمثل البنيات الفكرية والحسية الكثيرة المتنوعة , ببنيات فكرية لغوية ومن ثم بنيات فيزيائية أصوات وإشارات , محددة معينة وموحدة يتم التواصل بها بين الأفراد . واستعملها دماغنا في معالجته البنيات الفكرية , فكل جملة هي بيان لعلاقات أي هي تصف أو تمثل صيرورة جزء من الوجود . وهذه البنيات اللغوية الفيزيائية المرسلة للدماغ الآخر تصبح هي أيضاً مدخلات حسية , فهي تتحول من جديد لبنيات فكرية خام , وتصبح بنيات فكرية دلالية . فهي ترمز أفكار تم إرسالها من إنسان لآخر . وبذلك نشأت وسيلة تستطيع بها البنيات الفكرية الانتقال من عقل إلى آخر وذلك عن طريق ترميزها ببنيات لغوية فيزيائية أصوات وإشارات تنتقل إلى المستقبلات الحسية للعقل الآخر ويقوم هذا العقل بفك رموزها وإعادتها إلى بنبات فكرية . أي نشأت وسيلة للتواصل بين الناس . فهذا تم بعد أن تحولت البنيات الفكرية اللغوية إلى بنيات فيزيائية لغوية ( مؤثرات فيزيائية إشارات وأصوات) , فإذا تلقتها حواس إنسان آخر يمكن أن تتحول إلى بنيات فكرية لغوية ثم إلى بنيات فكرية ومعاني , إذا تم فك رموزها . فبهذا تنتقل البنيات الفكرية من دماغ إنسان إلى أخر وتصبح مهيأة لكي تتوضع فيه , أي يمكن أن تتحول هذه البنيات الفيزيائية اللغوية إلى بنيات فكرية عصبية , و تتوضع في دماغ المتلقي . عندما أوجد عقل الإنسان البنيات الفكرية اللغوية , التي استطاعت أن تمثل البنيات الواقعية وتمثل تفاعلاتها مع بعضها , وبذلك شكل نموذجاً للوجود , وكذلك تكون زمن فكري (ذاتي وجماعي) يمثّّل الحوادث و صيرورة الوقائع . فهو بذلك يستطيع أن يعرف أي يتنبأ بالأحداث , أو نتائج تفاعلات بين بنيات , حدثت في الماضي أو سوف تحدث في المستقبل . وكذلك يستطيع أن يتنبأ بحوادث أو تفاعلات لم يتأثر إلا بجزء قليل منها , فهو يكمل ما ينقصه ويضع سيناريو للكثير من تلك الحوادث . فالفكر يستطيع السير بتفاعلاته الفكرية بسرعة أكبر من السرعة التي تجري فيها في الواقع , أي إلى المستقبل . وكذلك يستطيع السير إلى الماضي عن طريق عكسه التفاعلات أو التحليل , ووضعه لسيناريو لما يمكن أن يكون حدث أو ما سوف يحدث , وتزداد دقة تنبؤاته باستمرار لتقترب من الواقع الفعلي . وبذلك فُتح الزمن في هذا النموذج الذي صنعه للوجود . فالعقل عندها يستطيع السير فكرياً عبر الزمن إن كان إلى الماضي أو إلى المستقبل . إن قدرات العقل البشري هائلة , وعندما يتعامل مع الواقع اللا متناه تكون الخيارات المتاحة لتفسيره هي أيضاً لا متناهية, فهو يستطيع تشكيل أغلب ما يريد من البنيات الفكرية ويعطي المعاني التي يريد لهذه البنيات. وأول من عرف ذلك هم السفسطائيون , وقد اقتربوا بذلك من فهم الوجود بشكل كبير لأنهم عرفوا أهم خصائص الوجود, وخصائص العقل , فاللعب بالأفكار المتاحة واسع جداً , وخاصةً بالنسبة للعقل الذي تعلم الكثير من الأفكار, فقد أدركوا الخيارات الهائلة المتاحة أثناء التفكير, وهذا جعل كل شيء متاح في التفكير, فكل فكرة مهما كانت يمكن الرد عليها إما بتفنيدها ونقدها أو بتأييدها ودعمها . أبعد تأثيرات اكتسابنا لللغة على تفكيرنا منذ حوالي 300 ألف سنة بدأت اللغة لدينا نحن البشر بالتكوّن باختراع الكلمات , وتطورت لتصبح كما هي عليه الآن , خلال 150 ألف سنة . كانت أهمية اختراع الكلمات في التواصل تتمثل في ابتكار أصوات محددة معينة أوضح وأدق من الإيماءات يتم تعليمها للصغار بسهولة . لقد سهلت اللغة عملية نقل الأفكار المتزايدة التعقيد . والأهمية الكبرى لللغة والتي كانت العامل الأساسي في تطور الذكاء البشري بشكل جعل تفكيره ومعالجة المعلومات المدخلة لدماغه مختلفة ومميز عن باقي الكائنات الحية , حتى التي دماغها أكبر بكثير من دماغه , هي أنها سمحت لكافة مركز الاستقبال الحسية أكانت سمعية أم بصرية أم شمية . . الخ تستطيع الترابط مع بعضها بواسطة اللغة التي استطاعت تمثيل الكثير من تأثيرات المدخلات الحسية برموز صوتية لغوية , وذلك عن طريق مناطق الارتباط الغوية في الدماغ , وهذه المناطق التي تشكلت واتسعت بشكل كبير هي الأساس الذي حقق لنا الذكاء المتميز عن كافة الكائنات الحية . فنحن الوحيدين من بين الكائنات الحية الذين نستطيع تمثيل غالبية الأحاسيس بواسطة رموز لغوية فكرية وهي الكلمات . ولم يبدأ التواصل بين مناطق الذكاء لغوياً إلا منذ حولي 150 ألف سنة , وأخذت المعلومات عن مختلف جوانب الحياة تمثل بكلمات يتم التواصل بها بين الأدمغة . وتطورت طريقة ربط الأفكار وهذا أدى لنمو الذكاء البشري بشكل كبير وسريع وغير مسبوق . فبواسطة اللغة المحكية بدأت القصص والروايات ومن ثم الأساطير بالتشكل والتداول بين أفراد الجماعة , وهذا سمح مع أمور أخرى بنشوء وتكوّن الثقافة الخاصة بكل جماعة ,والتي صار يتم توارثها وتناميها نتيجة الحياة والتواصل الاجتماعي عن طريق هذه اللغة المحكية , وفي هذه المرحلة تم حدوث القفزة الكبيرة للتفكير والذكاء البشري التي ميزته عن باقي الكائنات الحية . وفي رأي الكثيرين إن أهمية اللغة ليس فقط أنها سهلت التواصل وسمحت بتمثيل وترميز غالبة الأشياء والأفعال , بل هناك أمرآخر هام جداً , وهو أنها جعلتنا نفكر ونعالج الأفكار بشكل مختلف عن باقي الكائنات الحية , فنحن أصبحنا نفكر بشكل تسلسلي واعي سببي , ومنطقي . فبناء اللغة واستعمالها يعتمد التفكير السببي المنطقي التسلسلي . فهناك الإسم , والفعل , والصفات وباقي أدوات النحو , لتمثيل وترميز الأشياء ومجريات الأمور . وكذلك يستخدم الفعل , والفاعل , والمفعول به , لتمثيل السببي والمنطقي , لتسلسل الحوادث وتطورها , والتنبؤ لها . وهذا أدى لتكريس اعتماد السببية في منهج تفكيرنا , لأنه لابد لكل فعل من فاعل ,أو لابد لكل حادث من سبب , وبالتالي سلسلة بداية الأحداث يجب أن لا يكون لها بداية. وهذا من أهم ما ميز طريقة تفكيرنا عن باقي الكائنات الحية , والذي جعل تفكيرنا مختلف ومميز عن باقي الكائنات الحية . أن التفكير لدينا يعتمد بشكل كبير على اللغة , وكان البعض يرى أنه لا يمكن التفكير دون لغة , وأن الحيوانات تتصرف غريزياً ودون تفكير . ولكن ظهر أن غالبية الكائنات الحية تفكر وتتصرف بناءً على معالجة فكرية شاملة لما تتعرض له من ظروف ومؤثرات حسية , وبناءً على ما تعلمته أثناء حياتها . ولكن نحن فقد من بين كافة الكائنات الحية نعتمد التفكير الإرادي ومعالجة الأفكار بطريقة تسلسلية نتيجة التفكير بوجود اللغة , وذلك بالإضافة للطريقة التفرعية الشاملة التي تفكر بها غالبية الكائنات الحية . إن الذي يقوم بعملية المعالجة المتوازية للمدخلات الحسية هو الدماغ القديم الزواحفي والدماغ الحوفي , وكان يقوما بذلك قبل نشوء الدماغ الحديث بما فيه اللحاء . لقد كان الدماغ الزواحفي يقوم بمعالجة مجموعة مدخلات في نفس الوقت أي بالتوازي, وليس واحد بعد الآخر, فقد كان لهذا الدماغ القدرة على معالجة كافة المدخلات في نفس الوقت . فالدماغ في أول نشأته كانت مهمته معالجة كافة المدخلات الحسية في نفس الوقت أي بالتوازي , والمثير الأقوى والأهم هو الذي يقرر الاستجابة , وذلك بعد مقارنة كافة المثيرات الداخلة للمعالجة مع بعضها في نفس الوقت . ثم بعد ذلك صارت بعض المدخلات تأخذ أهمية ليس لقوتها أو تأثيرها الحاضر ولكن لتأثيرها المستقبلي الهام , وهذا حدث نتيجة تشكل آليات الإشراط أو ترابط المثيرات مع بعضها نتيجة التجاور المكاني أو الزماني أو معانيها . إن المعالجات الفكرية الإرادية الواعية لدينا التي تكون معالجة بالتسلسل وبالاعتماد على اللغة . وفي نفس الوقت تجري معالجة شاملة (أوبالتوازي)في باقي أجزاء ( الدماغ الزواحفي , والدماغ الحوفي ) وتكون غير واعية , ويتم إرسال نتائج هذه المعالجة إلى سبورة الوعي . فالدماغ الحوفي ينظم دخول المثيرات والأفكار بعد أن يعالجها بالتوازي إلى سبورة الوعي , فتشارك في تحديد الاستجابة . فالشيء المهم , هو أن المقارنة اللازمة لإجراء القياس والحكم , يلزمها معالجة بالتوازي , فلكي تتم مقارنة مجموعة مدخلات أو مؤثرات أو أفكار مع بعضها البعض يجب إدخالها معاً لمعالجتها دفعة واحدة . إن غالبية الناس ترى , أو يشعرون , أن لدينا شكلين من التفكير ( وفي رايي هذا صحيح ) . التفكير الأول وهو : التفكير الواعي الإرادي المنطقي السببي اللذي يعتمد على اللغة , وهو تفكير تسلسلي . ففي حالة اللغة المحكية أو المكتوبة وفي حالات النقاش والجدل , وكذلك في حالات ذكر الحوادث والقصص يكون التفكير تسلسلي . وأيضاً في حالة التفكير المنطقي والتفكير السببي والرياضيات يكون التفكير تسلسلي . وفي حالة كافة أشكال التعلم في المدارس والجامعات . يستعمل التفكير التسلسلي بشكل أساسي . أما التفكيرالثاني : فهو تفكير حدسي وغير واع وشامل , مثل الألهام والوحي والإبداع في الشعر والموسيقة والعلوم , وهو التفكير المتوازي . فالمشي والسباحة وركوب الدراجة , وكافة المهارات الجسمية والمعرفية كإلقاء الخطب والدروس المكتسبة بالتعلم تمارس بالتفكير المتوازي بشكل أساسي , مع توجيه وقيادة الفكير التسلسلي . أن تعلم كافة الحيوانات التصرفات والمهارات مثل تعلم الصيد من أبويها أو رفاقها , يتم بستخدام التفكير المتوازي الشامل , فهي تتعلم دفعة واحدة لكثير من الأمور , وليس خطوة خطوة , فهي لا تفكر بشكل تسلسلي مثلنا لأنها لا تستخدم لغة متطورة تجبرها على التفكير التسلسلي . |
0 التعليقات:
إرسال تعليق